تقرير: السالك زيد
في منزل متواضع بنواكشوط الجنوبية، تجلس مريم (اسم مستعار) 17عامًا متوارية عن الأنظار لا تنطق ببنت شفة بينما تجلس والدتها عند باب المنزل وقد كبلتها الحسرة، واعتصرت المرارة قلبها، فما حصل لابنتها الصغرى القاصر، كفيل بتقطيع كبد كل أم. كان المشهد هادئًا حزينًا، عندما زرت العائلة أول مرة، أثناء الإعداد لقصتي. كانت الأم تنتظرني بفارغ الصبر، لكي أتعرف على ما حصل لابنتها. هي الوحيدة التي قبلت استضافتي من بين عشرات الأسر، التي فضل بعضها التكتم على اغتصاب بناتها، والبعض الآخر فضل تسوية الأمر على نار هادئة مع الجناة.
بصوت مبحوح تحمل نبرته الكثير من الحزن، نادت على ابنتها مريم، وأمرتها بالجلوس جنبها لكي تسمعنا حكايتها مع الاغتصاب. مريم فتاة صغيرة في مقتبل العمر، أحلامها كانت بسيطة، والمستقبل أمامها مشرق، لم يخطر على بال أمها أن حياة ابنتها الصغيرة المدللة ستتحطم بالكامل، وسيلقي بها القدر في ركن قصي من المنزل، بعيدًا عن الأعين، وكلام الناس. انضمت الفتاة إلينا، لكنها قضت وقتًا طويلاً دون أن تحرك شفتيها ببنت شفة. سألتها مرة بعد مرة بعد أخرى، وأخيرا بدأت تتكلم: “استغل ابن الجيران فرصة غياب أهلي، وتعدى عليّ غصبًا ثم هددني حال أفشيت الأمر.”
سألت والدتها، متى اكتشفتم ماحدث؟ أجابت: “هي لم تخبرنا أبدا بما فعل، لكنها مرضت في إحدى المرات وذهبنا بها إلى المستشفى وهناك اكتشفنا بأنها حامل في شهرها الثالث، سألناها عن الفاعل وكيف، فحكت لنا الحكاية.”
قصة عيشة (اسم مستعار) التي تعيش في نواكشوط الغربية، تختلف عن مريم. فبينما تتوارى مريم عن الأنظار في المنزل، تقوم “عيشه” بزيارة مركز لتأهيل الضحايا بنواكشوط، بعد أن أصيبت بالاكتئاب نتيجة لوقوعها ضحية للاغتصاب ذات مساء مشئوم. “كنت عائدة إلى المنزل في ذلك المساء من عند الدكان، باغتني من الخلف ووضع سكينا على رقبتي وهددني بالقتل إن أنا تحركت أو صرخت.” فضلًا عن مريم وعيشه، هناك عشرات الفتيات اللاتي يتم اغتصابهن في موريتانيا، ولا يتحدثن عن الأمر بسبب الخوف على السمعة أو الخشية من بطش المعتدي، أو بسبب عدم الثقة في عدالة القانون؛ وهو الجانب الأكثر إيلامًا في الموضوع، إذ أن المواد التي تجرم الاغتصاب في القوانين الموريتانية تُصعّب على الضحية الحصول على حقها أو تحقيق العدالة، بل وقد تضعها في قفص الاتهام.
قصور قانوني
صُدمت أسرة مريم بالقانون الذي لا يحقق العدالة، فعندما رفعت شكوى ضد المتهم عند محكمة نواكشوط الجنوبية، تم استدعاؤه، لكن وحسب الوالدة، تم إلقاء القبض عليه للاستجواب، وبعد أيام جاء أهله إلى والدة مريم يريدون الصلح، وتزويج الجاني بالضحية، وقبلت والدة الضحية، قبل أن تتفاجأ بإطلاق سراحه وبرجوع أهله عن طلبهم. وبعدما كانت في انتظار أن ينصفها القانون راح حلمها في مهب الريح بل وأصبح من الممكن أن تواجه مريم تهمة انتهاك حرمات الله. تجربة عيشة بين أروقة المحاكم لا تختلف كثيرًا عن تجربة مريم المخيبة للآمال، فبعدما كلفت منظمة مختصة بالدفاع عن ضحايا الاغتصاب محاميًا بقضيتها، لم يستطع إثبات التهمة على المتهم، وأطلق سراحه في نهاية الأمر، فالقانون الموريتاني لا يقدم تعريفًا واضحًا لجريمة الاغتصاب، ويحدد عقوبة الجناية في مادتين من القانون الجنائي الموريتاني، وهما المادة 309 – 310.
يجرم القانون الموريتاني الاغتصاب في مادتيه 309 و310 إذ تنص الأولى على أنه “يُعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة كل من يحاول ارتكاب جريمة الاغتصاب وإذا تمت الجناية فإنه يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة زيادة على الجلد إذا كان بكرا كما يعاقب بالرجم وحده إذا كان محصنًا.” فيما تنص المادة 310 على أنه “إذا كان الجناة من أصول من وقع عليها الاعتداء أو كانوا من فئة من لهم سلطة عليه، أو من معلميه أو من يخدمونه بأجر، أو كان خادما لدى الأشخاص المبينين أعلاه، أو كانوا موظفين أو رجال دين، أو إذا كان الجاني قد استعان في ارتكاب الجريمة الجنائية بشخص أو أكثر فتكون العقوبة هي: الاعدام بالرجم بالنسبة للمحصنين، وبالأشغال الشاقة المؤقتة زيادة على الجلد بالنسبة للبكر.”
يقول المحامي لدى المحاكم الموريتانية العيد ولد امبارك، أنهم يعانون من عدم تعريف هذه المواد لجريمة الاغتصاب كما أن المعاناة الأكبر تكمن في إثبات الجريمة. “ما لم يعترف المتهم بفعلته أو تأتي الضحية بأربعة شهود يظل من الصعب إثبات الجريمة على المتهم. وقد يكيف القاضي في بعض الأحيان القضية على أنها انتهاك لحرمات الله، وعندها تكون الضحية متهمة أيضًا وقد تواجه السجن حتى ولو كانت قاصرًا،” ويضيف المحامي العيد: “رغم أن القانون يعتبر بأن رضا القاصر لا يُعتد به فإن القاصر هي الأخرى قد تواجه نفس التهمة.”
المجتمع المدني، هو الآخر، يوافق المحامي العيد ولد مبارك، فيما ذهب إليه. قمت بزيارة مقر منظمة مُعيلات الأسر التي ترأسها الناشطة آمنة بنت المختار، وعندما سألتها عن القانون وهل تعتبره عائقًا دون إنصاف ضحايا الاغتصاب قالت: “نعم نعتبره فعلًا عائقًا دون إنصاف ضحايا الاغتصاب، ونحن قمنا بصياغة مقترح قانون وقدمناه للبرلمان لكن تم رفضه بحجة أنه مخالف للشرع.” وتابعت آمنة:”ليس هناك طب شرعي في موريتانيا، ولا فحص للحمض النووي DNA، وفي غيابهما وفي ظل ضعف القانون، لن تجد ضحية الاغتصاب العدالة كما أن الضحية عندما تذهب إلى المستشفى من أجل الكشف الطبي، لا تجد من يهتم بها، وتبقى هناك مع المرضى وزوار المستشفى.”
وترى النائب البرلماني زينب منت التقي، أن المواد المجرمة للاغتصاب في موريتانيا، لا تساعد على معاقبة الجناة وإعطاء الضحايا حقوقهن في العادلة، وأضافت: ” لقد قمت بتقديم مشروع قانون شخصياً، لكنه وضع في رواق من أروقة البرلمان ولم يهتموا به.”
بحث عن قانون رادع
المرة الوحيدة التي شهد المجتمع الموريتاني فيها أول صرخة ضد تفاقم ظاهرة الاغتصاب، كانت عام 2015 عندما هزت نواكشوط حالة اغتصاب وحرق لقاصر، تبعتها حادثة أخرى مماثلة. خرجت المظاهرات تقودها النساء مطالبة بمعاقبة الجناة أشد عقاب، جابت المظاهرات شوارع نواكشوط، وتظاهر الناشطون أمام القصر الرئاسي، وأمام البرلمان. لكن تلك المظاهرات سرعان ما خمدت
لا توجد في موريتانيا إحصاءات رسمية حول أعداد حالات الاغتصاب في موريتانيا وضحايا العنف الجنسي. ورغم ذلك فإنه تظهر من الحين إلى الآخر حالات تهز الرأي العام، من بين تلك الحالات الطفلة وردة التي اغتصبها حارس مدرسة قبل ثلاث سنوات، والتي تسببت في حملات مناصرة واسعة من الناشطات في المجتمع المدني وعلى مواقع التواصل الاجتماعي..
أطلق حينها وسم “حمايتي بالقانون حقي” ولاقى رواجا واسعا من خلال الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعية، وتسبب في نقاش كبير حول ضرورة مراجعة القوانين المتعلقة بالمرأة والاعتداءات الجنسية التي في الغالب تكون الفتيات والنساء ضحية لها.
الحكومة تتحرك
في ظل تصاعد الصرخات المطالبة بضرورة سن قانون رادع بخصوص العنف ضد النساء والتمييز على أساس النوع، تحركت الحكومة عام 2020 لإيجاد حل للحالات التي باتت تحرك الرأي العام، فاقترحت ما عرف بقانون النوع حينها على البرلمان، لكن الأصوات تعالت مرة أخرى لكن هذه المرة رفضا للقانون بحجة أنه يخالف الشريعة الإسلامية وسيفكك الأسرة، وسط هذا الجو أعاد البرلمان مشروع القانون للحكومة للمزيد من التنقيح والمراجعة.
واليوم تسعى الحكومة من جديد إلى إعادة مشروع القانون بطريقة مقبولة لدى الجميع، فاقترحت مشروع قانون “كرامة” الذي تهدف من خلال إلى صون حقوق المرأة في موريتانيا. ورغم أن الحكومة استشارت هيئة العلماء والأئمة إلا أنه أيضا واجه نفس المشكلة التي واجهها مشروع القانون السابق.
وفي ظل هذه الوضعية تظل النساء في موريتانيا عرضة لأنواع الانتهاكات من عنف جنسي ولفظي وحرمان من الحقوق، بسبب غياب القانون ونظرة المجتمع العنيفة اتجاه الضحية والتي غالبا ما تحمل مسؤولية ما حصل لها.