تقرير: حامد المختار
قبل قرابة ثلاث سنوات صادف حامد الفاظل حادثا مأساويا بينما كان يتجه من نواكشوط إلى مدينة كيفة، راح ضحية الحادث سبعة أشخاص وجرح آخرون، لم يكن سبب الحادث سوى وجود حفرة وسط الطريق لم يتم إصلاحها.
بقي ذلك المشهد عالقا في ذاكرة حامد بكل تفاصيله، ما دفعه إلى تصوير أول مقطع فيديو حول وضعية طريق الأمل الرابط بين نواكشوط وأقصى الشرق الموريتاني لتبدأ بذلك رحلته مع ممارسة “كشفه الفساد”
الضوء القادم من الشرق

ينحدر حامد سيد الأمين ولد الفاظل وهو رجل على مشارف الستين من مواليد عام 1966 بمدينة كيفة عاصمة ولاية لعصابه، درس في إعدادية وثانوية المدينة التي رأى النور فيها حتى حصوله على شهادة الباكالوريا عام 1986، أمضى سنتين في الجامعة يدرس تخصص القانون العام في كلية العلوم القانونية والاقتصادية، قبل أن يضطر إلى ترك مقاعد الجامعة بسبب الظروف المادية، ويلتحق بالعمل في القطاع الخاص.
في بلد ترفع فيه الحكومات المتعاقبة شعارات محاربة الفساد، ويشكو مواطنوه تردي الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وصرف صحي، قرر خوض معركة محاربة الفساد، جيشه فيها: صوته، هاتفه وسيارته، متحديا ثنائية المضايقات والإغراءات مقابل إرضاء ضميره وخدمة الوطن.
تنتشر المقاطع التي يصورها على وسائل التواصل الاجتماعي، بشكل واسع، ويغشى صوته دوائر صنع القرار، ففي كثير من المرات أصلحت أعطاب ـ كما يقول ـ بعد أن سلط عليها الضوء.
وحده يجوب مختلف مناطق العاصمة ـ وأحيانا مدن الداخل ـ يطلب من المارة تصويره ويدفع من جيبه تارة لذلك الغرض.
يقول حامد في حديثه لموقع “تقصي” إنه كان مرة بسوق منطقة العيادة المجمعة “كلينيك” فناول هاتفه شابا لتصويره يتحدث عن خلل هناك، غير أنه فوجئ بأن الشاب قد هرب بالهاتف”
لحظة طريفة ومؤلمة، فما سرق منه لم يكن مجرد هاتف، بل آلة شاهدة على توثيق عشرات مكامن الخلل والتقصير في العاصمة نواكشوط، وفقدان ذلك الهاتف هو أبسط ثمن يدفعه حامد في طريقه نحو كشف الفساد.
اختار لنفسه لقب “كاشف الفساد” فنال سمعة أسهم فيها توثيقه لما هو حاصل من الإختلالات التي يصادفها في الشارع وحديثه البسيط دون تكلف بلغة يفهمها الجميع.
أكسب راحة نفسية
يقوم حامد الفاظل الذي بات يشتهر بلقب كاشف الفساد بهذا العمل على أساس تطوعي خالص، حيث لا يرتبط عمله بمنظمة أو مؤسسة ولا يحصل على تمويل، لكنه يكسب ما هو أهم وأثمن بالنسبة له.
“تنبع ممارستي لهذا العمل من حبي الصادق لموريتانيا وأملي في أن يكون حاضرها أفضل من ماضيها”
أصبح اليوم وجهة لاستقبال مظالم المواطنين العاديين، ولا يتوقف هاتفه عن الرنين في كل الأوقات، كل الاتصالات والرسائل تحمل معها مشاكل جديدة تحتاج إلى من يوصلها، لقد أصبح منبرا لا تخطئه عيون المتضررين.
فمن مشاكل (مياه الأمطار، وضعية الطرق، انقطاعات الماء والكهرباء، انتشار النفايات) إلخ .. تتنوع التبليغات لكن عنوانها واحد.
يعتبر كاشف الفساد أنه يجد راحة نفسية كل مرة يتم فيها أصلاح خلل ما نتيجة تسليطه الضوء عليه.
انتشار واسع ومشاهدات بالآلاف
لحامد حساب على منصة تيك توك يتابعه أكثر من 43 ألف شخص، وآخر على الفيس بوك ويتحدث في مقاطع الفيديو باللهجة الحسانية الأكثر انتشارا في البلد، كما تحظى مقاطعه بمشاهدات بالآلاف ومئات المشاركات والتفاعل.
ورغم أنه يحظى بالتشجيع من خلال التعليقات ومشاركات مقاطعه والثناء على عمله، إلا أنه أيضا لا يسلم من الانتقاد والتشكيك في أهدافه.

“الغالبية العظمى من الجمهور تتفاعل مع محتواي بنوع من الدعم، إلا أنه في بعض الأحيان تحز في نفسي بعض التعليقات السلبية ـ على قلتها ـ يقول أصحابها إنني أتوخى من خلال كشفي للفساد منفعة شخصية وإنني مقابل مبلغ زهيد قد أتخلى عن كشفي للفساد”
ردة فعل حكومية
في 22 أكتوبر 2024، أطلقت الحكومة الموريتانية منصة “عين” الرقمية لقبول شكاوى وبلاغات المواطنين بهدف تحسين الأداء الحكومي وتعزيز الشفافية كما تقول الحكومة، وتم الترويج لها على نطاق واسع كوسيلة تسمح للمواطنين الإبلاغ عن المشاكل في كل القطاعات الحكومية.
إطلاق هذه المنصة يرى حامد أنه جاء نتيجة انتشار مقاطعه عبر وسائل التواصل الاجتماعي ما جعل الحكومة الموريتانية ممثلة في الوزارة الأولى تتخذ هذه الخطوة، ورغم ذلك يقول حامد إن المنصة ما تزال لحد الآن غير قادرة على إحداث نفس التأثير الذي أحدثه هو.
ساعدته دراسته للقانون في تفادي الاعتقال حيث لا يتعدى مساحة التعبير التي يتيحها له القانون، مستخدما الصوت والصورة لتوثيق القضايا التي يتناولها.
يقول حامد إنه ذات مرة دخل مستشفى مجمع العيادات فوجده في “وضعية يرثى لها” المكيفات قديمة ومتهالكة، بدأ تصوير المشهد، فاستدعى مسير المستشفى الشرطة فطالبوه بتسليم هاتفه لكنه رفض قائلا : إن كنتم تحكمون القانون لنذهب إلى مفوضية الشرطة، ولن أذهب إليها دون أن يذهب معي صاحب الشكاية فتركوه وشأنه”
ولذلك يمارس كاشف الفساد عمله في الحدود التي يضمنها القانون للمواطن، ويدعم حديثه بأدلة مصورة دون أن يتجاوز حقوق الآخر أو يوزع الاتهامات على أشخاص بعينهم، مما منعه فرصة المواصلة دون اعتقال أو تقديم شكاوى قضائية ضده.
نماذج تتحدث
في الخامس من يونيو 2025، سجل مقطع فيديو ينتقد فيه وجود حفرة على الطريق بالقرب من مجمع “موريسانتر” بمقاطعة تفرغ زينه تسببت فيها إحدى شركات الاتصال الموجودة في البلد، ويهدد فيه بمقاضاة الشركة الأجنبية إن هي لم تصلح الخطأ الذي تسببت فيه وأمهلها 48 ساعة، وبعدها بساعات استجابت الشركة لدعوته وأصلحت الحفرة
يظهر حامد في مقطع آخر يقف فيه متحدثا عن انعدام الماء في منشأة لتوفير المياه، دشنها الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في مايو 2024 لغرض زيادة إنتاج الماء الصالح للشرب بمدينة كيفه، إلى أنه وبعد أشهر من التدشين، وثق حامد كيف تعطلت وتوقفت عن تزويد المواطنين بالماء الشروب، بعد ما كانت إنجازا يتم التفاخر به.
تشمل مكونات البرنامج الاستعجالي لتنمية مدينة نواكشوط تشجير بعض المحاور الطرقية، وفي تاريخ 27 يوليو 2025 كشف حامد في أحد مقاطعه عدم وجود أشجار في السياجات المعدة لحماية الأشجار على الطريق الرابط بين ملتقى طرق “ستيرنات وملتقى الطرق الواقع قرب “دار اعل ولد محمد فال”
يعلل الأسباب الكامنة وراء هذا الفعل في تقصير القائمين على عملية التشجير وقبض ثمن ذلك دون وجودها أصلا داخل السياجات.
“لم يسبق لأي وسيلة إعلامية لا رسمية ولا خاصة التواصل معي لاستضافتي سوى منصة واحدة على فيسبوك”
يأتي معظم التفاعل مع مقاطعه من فئة الشباب الموجودة بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي.
يريد حامد أن يكون قدوة لأكبر عدد من الأشخاص فيحذون حذوه بتوثيق أي فساد أو تقصير من الجهات الحكومية، ما سيسهم وفق قوله في إحداث المزيد من الإصلاح، إلا أن الضغوطات التي يواجهها من يقتحم هذا المجال تحول دون مواصلة بعضهم فيه يؤكد حامد.
كان يتوقع أن ينال تكريما أو توشيحا في أحد أعياد الاستقلال لما يقوم به من عمل على عموم الرقعة الجغرافية للعاصمة نواكشوط دون أي مساعدة، مضيفا أنه أحيانا يواجه بعض المضايقات، يصف حامد نفسه كمن يخوض حربا ضد مختلف القطاعات الحكومية لا لشيء سوى حبه لبلده وتعلقه به وتطلعه لرؤيته في مصاف البلدان المتقدمة.

“صرت منبوذا، لم يعد كثيرون يرغبون في التعاطي معي سواء تعلق الأمر بعمل أو غيره بفعل ممارستي لهذا العمل، لكن ذلك لن يثنيني عن الاستمرار”
يشبه حامد نفسه بالمها المعزولة عن القطيع، متحدثا عن الكثير من التشجيع السري الذي يتلقاه.
لكن في الوقت ذاته يؤكد حامد أنه سيظل صوتا يصل صداه الجهات المعنية، ومرآة عاكسة مرفوقة بصوت رجل قاب قوسين من اقتحام عقده السادس، سيظل يسلط الضوء على ما طالته عتمة الإهمال، وقوده حب وطن وراحة تعقب كل مقطع يصوره، وجنوده هاتفه وسيارته، ومحفزه آلاف التعليقات الإيجابية التي تصدر من متابعيه.