الثروة السمكية في موريتانيا ” بين التخبط السياسي والفساد الإداري” 

DCIM104MEDIADJI_0964.JPG

مقال رأي:  نفيسة حمدي باحثة

تحظى موريتانيا التي تطل على المحيط الأطلسي بامتداد يبلغ 754 كيلومترا، بشواطئ من أغنى مثيلاتها في العالم بالموارد السمكية، كما يجري نهر السنغال على الحدود الجنوبية للبلد على طول 850 كيلومترا، تثير هذه الثروة السمكية الضخمة مطامع للكثير من القوى الأجنبية والدول الاقتصادية، الأمر الذي يكاد أن يجعل من هذه الثروة لعنة اقتصادية يصاب بها الاقتصادي الموريتاني في ظل الاتفاقيات التدميرية التي يتخذها صناع القرار بحق الثروة البحرية، والاستراتيجيات التنظيرية، والفشل الإداري المتواصل. 

على الرغم من أن السمك مورد متجدد فإن الاستنزاف المتواصل الذي يعيشه القطاع البحري خصوصا في السنوات الأخيرة يجعلنا أمام استغلال كامل للسمك، يُرى هذا من خلال معاناة المواطنين جراء قلة السمك، والسعر الجنوني الذي وصل إليه داخل البلد. 

لقد أجرم ولد عبد العزيز باتفاقياته في الصيد البحري، وخصوصا في تلك التي مع الصين، وذلك لطول أمد هذه الاتفاقية التي تمتد إلى 25 سنة، تجدد فيها بنود الاتفاقية كل خمس سنوات، خولت هذه الاتفاقية للصين نهب الثروة السمكية بلا حسيب ولا رقيب، وتجاوزت فيها كل الخطوط الحمراء المتعارف عليها في اصطياد السمك، بسبب غياب الرقابة البحرية. 

وفي حين أن ولد عبد العزيز قد وقع في هذا الجرم البيّن، لم يكن ولد الغزواني مع الأسف منقذا من هذا المأزق العظيم، بل ازداد مسح البحر من الثروة السمكية على عهده، وأضحى حتى من الممنوع الكلام عن جرائم اصطياد السمك وتجاوزات السفن في البحر والمحيط، ومن فعل فمآله إلى السجن كما حدث مع الناشط البيئي علي بن بكار في الأسبوع المنصرم. 

على الرغم مما تزخر به المنطقة من موارد بحرية هامة، وحجم الأساطيل التي ظلت تستغلها منذ القرن الخامس عشر ميلادي، فقد ترك المستعمر الفرنسي ميراثا متواضعا للقطاع، لدى حصول موريتانيا على الاستقلال سنة 1960م، ثم بدأ صناع القرار في البلد منذ ستينات القرن 20 محاولات مختلفة للولوج إلى هذه الموارد في ظل عدم وجود أي ميراث للصيد البحري لدى غالبية المواطنين، وبعد تعثر التجارب الأولى في العقد الأول للاستقلال، تبلور في منتصف السبعينات تصور للتوجه نحو إنشاء شركات مختلفة مع دول عربية تتمتع بفوائض مالية نفطية، ثم بتر هذا التصور في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي دخلت البلاد في دوامتها وتتمثل في: 

– هبوط أسعار الحديد والنحاس في السبعينات 

 -أزمة ارتفاع أسعار البترول في السوق الدولية  

-تزامن تلك الصعوبات مع سنوات الجفاف 

-دخول موريتانيا في حرب الصحراء 

-حاجتها إلى تنويع مواردها الاقتصادية 

 اعتبرت أول رؤية استراتيجية للقطاع ” السياسة الجديدة للصيد البحري” سنة 1979م، أن الرؤية التي تمثل الإرادة السياسية في تلك الفترة هي اندماج قطاع الصيد البحري في الاقتصاد الوطني، باعتبار أن القدرات الكامنة للقطاع تجعل منه الأهم في هذا الاقتصاد1

تمثلت أهداف سياسة 1979 في البحث الأمثل عن مستويات للربح يتم الحصول عليها من الموارد البحرية من خلال: تنمية الصيد التقليدي ليكون نقطة انطلاق لتكوين أسطول صيد بحري وطني، التطوير السريع لبنيات تفريغ للمنتجات (ميناء انواذيبو، منطقة إيواء في انواكشوط)، ضمان تموين المصانع الموجودة على اليابسة، تشجيع إنشاء شركات صيد موريتانية أو مختلطة، إعطاء رخص صيد بحري مع إلزامية تموين كامل للمصانع على اليابسة والعمل على إنشاء أسطول صيد بحري وطني، وإعطاء قطاع الصيد صفة الشخصية المميزة والوسائل اللازمة للقيام بمهامه2

ومع هذه الأهداف السامية للسياسة سنة 1979م، إلا أنه يوجد نوع من عدم الوضوح في الرؤية القطاعية بالنظر إلى الأولويات لدى صانع القرار على المستوى الكلي للاقتصاد الوطني، فرغم أهمية الأهداف المذكورة فقد اعتمد مخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية الرابع للسنوات ما بين 1981م و1985م كأولوية، تطوير القطاع الزراعي بهدف الاكتفاء الذاتي غذائيا في أفق سنة 2000. 

 دخلت موريتانيا سنة 1985م، مع مؤسسات “بريتون وودز” في برنامج التصحيح الاقتصادي والمالي، في ظل الصعوبات المختلفة لتنمية القطاعات التي كانت تشكل ركيزة اقتصاد البلد(الحديد والموارد الحيوانية)…وهيمنت اشتراطات إعادة التوازنات الاقتصادية الكبرى ( الميزانية، ميزان المدفوعات، الميزان التجاري، الخ)، على الرؤية التنموية للقطاع. 

ثم اعتمدت البلاد ما عرف بالإطار الاستراتيجي لمكافحة الفقر في الفترة ما بين سنة 2001م إلى 2015م، فكان أيضا الخطاب السائد في القطاع  يعلن بشكل مستمر عن أولوية تلك “المكافحة”، ويهيمن على الخطاب الاقتصادي اليوم الكلام عن الاستراتيجية الوطنية للنمو المتسارع والرفاه المشترك، والحقيقة أنه لا الأولى نجحت في تقليل الفقر وسد فجوة البطالة، ولا الأخيرة نجحت في نمو القطاع ولا الرفاه المشترك للمجتمع. 

 أصدرت لحد الآن ثماني سياسات أو استراتيجيات قطاعية في الفترة ما بين 1979 و2022 وظل الهدف المنشود في كل تلك الاستراتيجيات هو اندماج القطاع في الاقتصاد الوطني، فإلى أي حد نجحت هذه الاستراتيجيات في بلوغ هدفها؟ 

دخلت موريتانيا في اتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي في شأن الصيد البحري، وتفيد البيانات أن مداخيل الميزانية العمومية من قطاع الصيد البحري كانت قد وصلت في بعض مراحلها إلى الارتهان شبه الكامل للموارد المحصلة من الاتفاقية مع الاتحاد فيما يصل إلى حدود 80%، ويبدو أن هذه التبعية تعاظمت ابتداء من سنة 1996 مع توقيع النسخة الثانية من الاتفاقية التي سمحت للأوروبيين بالولوج رسميا إلى الرأس قدميات، وهو ما يؤشر بداهة إلى ضعف مستوى تعبئة الموارد من المصادر المحلية (الموريتانية) للقطاع، وإلى الدرجة المرتفعة من ارتهان موارد الميزانية من هذا القطاع للاتفاقيات. 

سمح البروتوكول اتفاقية الصيد بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي للفترة الممتدة ما بين (2015-2019) بتوفير مزايا للبلد في مقابل الصيد في المياه الموريتانية، من بينها تعويض مالي سنوي بمبلغ 55 مليون يورو يدفعه الاتحاد الأوروبي بوصفه هيئة، في حساب للخزينة العمومية لدى البنك المركزي الموريتاني. 

يظهر للباحث في الشأن الاقتصادي أن الاتفاقيات البحرية مع الاتحاد الأوروبي على الرغم من عدم استيفائها للشروط، فإنها أرحم بكثير من الاتفاقية مع الصين  باسم  شركة “بولي هوندون بلاجيك فشري السمكية” التي أقرها ولد عبد العزيز ووافقت عليها الجمعية الوطنية في 2010. 

على الرغم من مرور 15 سنة على هذه الاتفاقية لم يتحقق لموريتانيا أي بند من بنود الاتفاقية يذكر، غير أنها نهبت ثرواتها ولوثت بيئتها المحيطية. 

أما بالنسبة للشراكة مع تركيا، فقد فاقت السفن التركية كل التوقعات الإجرامية في حق الثروة السمكية، ورغم انتهاء المدة المتفق عليها في اتفاقية 2017فما زالت السفن التركية نشطة في المياه الموريتانية،  مستمرة في النهب والتبديد بدون مساءلة أو محاسبة. 

تشير الدراسات إلى أن موريتانيا ظلت تفقد سنويا وفي أدنى الاحتمالات ما يغطي ما بين 30 و40% من النفقات السنوية للميزانية العمومية، لقد قدرت قيمة المخزون القابل للاستغلال من الموارد البحرية في موريتانيا بالأسعار لدى التفريغ، في سنة 1981 بحوالي 300 مليون دولار أمريكي سنويا، وقدر صافي الربع السنوي الذي يمكن الحصول عليه من إنتاج تلك الموارد وخاصة من الرأس قدميات في حالة ما إذا تم تسيير هذه المصيدة بشكل أمثل بما بين 70 و90 مليون دولار3، أي نسبة 38% من إجمالي نفقات الدولة لتلك السنة. 

وقدرت المزايا المفقودة سنويا (بناء على تقدير سنة2013)  بسبب بعض النواقص في تسيير القطاع بحوالي 350 مليون دولار أمريكي، أي أن تحصيل هذه المزايا لسنة واحدة يغطي نسبة 27% من إجمالي نفقات ميزانية الدولة لسنة 2013، كما أن هذا الفاقد يمثل أكثر من 65% من إجمالي الحاجة إلى التمويلات الضرورية لتنفيذ الإستراتيجية القطاعية (2015-2019م). 

يطوف حول المعلومات المتعلقة بصادرات موريتانيا من الأسماك الكثير من الضبابية عندما يتعلق الأمر بالبواخر الأجنبية المرخص لها بالصيد في مياه البلد والتي لا تقوم بتفريغ إنتاجها في الموانئ الموريتانية  مثل تلك العاملة في إطار بعض الاتفاقيات أو الرخص الحرة، فهذه المعلومات ناقصة بشكل واضح ومتناقضة. 

تظهر إحدى الدراسات حول تقييم موارد القطاع أن 37% من تلك البواخر قد أعطت بيانات غير متطابقة كما بدا 30%، من رحلات الصيد البحري التي شملتها البيانات قد تجاوزت مقبوضاتها بشكل كبير ما يصرح به في يوميات الصيد4

تقوم الرقابة البحرية بخرق كبير بعدم تسجيلها لإنتاج البواخر الصناعية العاملة في إطار الرخص الحرة بوصفه منتجا موريتانيا سواء كانت تعمل في إطار اتفاقيات مع دول أو مجموعة دول أو مع مجهزي سفن أفراد، لذلك سيرى الباحث فرقا كبيرا بين صادرات البلاد من الأسماك وبين تقديرات إجمالي إنتاج مختلف الأساطيل العاملة في المياه الموريتانية. 

تشهد الثروة السمكية انتهاكات جسيمة، فقد تجاوزت بعض أهم مخزونات الأسماك الموريتانية الطاقة القصوى للإنتاج مثل النوعيات القاعية ورأسيات الأرجل خاصة، فلم تعد تتحمل زيادة في مستويات استغلالها، كما يبين التقييم العلمي لحالة الموارد السمكية تراجعا معتبرا في وضعية أهم مخزونات الأسماك (السطحية والقاعدة) في المنطقة الاقتصادية الخالصة الموريتانية، نتيجة للجهد الزائد عن حدود المستوى المستدام لاستغلال هذه المخزونات5

هذا الاستغلال المفرط للثروة السمكية نتيجة للاتفاقيات المبرمة مع الدول الأجنبية، جعل بلاد تشهد ارتفاعا كبيرا لأسعار السمك على المواطن المسكين، بسبب تراجع المخزون السمكي المنهوب والمبدد. 

ختاما: 

من الضروري جدا الحد من اتفاقيات النهب والتبديد. 

-عدم السماح لسفن الصيد بالولوج إلى المناطق المحمية تحت أي ظرف كان. 

-شفافية الرقابة البحرية وإلزامها بتسجيل كل الصادرات ومتابعة السفن أمر أساسي لا غنى عنه. 

-دعم الاستثماري للقطاع الذي ما يزال يعاني من نواقص جوهرية تمنع المواطنين من التوجه إليه. 

-حفظ حقوق اليد العاملة، وتوفير الإمدادات اللازمة، وتكوين الموارد البشرية المهنية ومن المستحسن أن يكونوا من أبناء الوطن. 

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يتحمل موقع #تقصي مسؤولية المعلومات الواردة فيه

Related posts

انطلاق أول وحدة للصحافة الاستقصائية والتقارير المعمقة في موريتانيا…

السفيرة الأمريكية لدى موريتانيا تكتب: احتضان الحلم الأمريكي من خلال المسارات القانونية

الناشط الحقوقي إبراهيم رمظان يكتب: نحن و حقوق الإنسان…